الأربعاء، 27 يناير 2010

موضوعية علماء المسلمين تجاه نقد وتقويم الاشخاص

"موضوعية علماء المسلمين تجاه تقويم ونقد الاشخاص"
من كتاب فصول في التفكير الموضوعي
د.عبد الكريم بكار


يمثل التعامل مع الاشخاص تقوبما ونقدا مسلكا من اخطر مسالك الانزلاق عن الموضوعية وذلك لاعتبارات كثيرة منها:
*عدم ثبات مواقع الاشخاص جميعا سواء اكانوا في مقام الناقدين ام كانوا في مقام المنتقدين بين المراهقة والنضج والخطا والصواب والهداية والعماية والغلو والاعتدال.
*الاعتماد على العناصر العاطفية والروحية في التقويم وهي بطبيعة الحال شديدة التنوع والتغاير.
*اختلاف المستويات الثقافية للناقدين مما يجعل المعاييرشخصية .
*عدم امتلاك ادوات ومقاييس مادية تمكننا من الوصول الى احكام متطابقة كتلك التي نصدرها على الطبيعة من حولنا .
*ما نجده من الصعوبة البالغة في التفريق بين احكام صدرت عن قناعات عميقة لدى اصحابها ،وبين احكام كان مصدرها الهوى والحسد.
ونتيجة لذلك فاننا لا نعجب حين نسمع عن خلاف بين الناس في تقييم شخص واحد،ومن هنا نشعر اننا حتى نكون قريبين من الموضوعية في هذا الباب بحاجة الى ارساء عدد كبير من الضوابط والاحترازات والاستثناءات ،حتى نشعر اننا نتحلى بفضيلة الانصاف.
***

أهم المفردات التي تجلت فيها موضوعية علماء المسلمين في الحكم على الاشخاص:

أ)نظرا لكثرة أنواع الخيرات وانواع الشرور ،وتفاوت مقاديرها فإن المسلمين يرون أنه لا يوجد إنسان هو خير محض، ولا انسان هو شر محض _إلا من عصم الله_ وتنسحب هذه النظرة على الجماعات والطوائف والملل، فمقادير الخيرات والكمالات تتفاوت بين ملة واخرى ، وكذلك درجات الشرور والنواقص تتفاوت بين امة واخرى،وهذا في الحقيقة يعد مدخلا مهما نحو موضوعية الاحكام التي يصدرها بنو البشر على بعضهم بعضا،كما أنه مقدمة ضرورية لتكوين هامش ما يمكن أن يلتقي فيه ابناء آدم.
ولنا في صحابة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_خير قدوة في سلوك بعضهم مع بعض فقد شهروا السيوف على بعضهم وجرى بينهم من القتال ماهو معروف ومع هذا فانه كان يوالي بعضا موالاة الدين،فيقبل بعضهم شهادة بعض، وياخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض وهذا كله نابع من النظرة التفصيلية التي اسسها الاسلام .
وعلى نهجهم سار سلف الامة الافاضل فهذا شيخ الاسلام ابن تيمية_رحمه الله_يقول:( ولا ريب أن في كثير من المسلمين من الظلم والجهل والبدع والفجور ما لا يعلمه الا الله ، لكن كل شر يكون في بعض المسلمين فهو في غيرهم اكثر، وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم اعلى واعظم ) ويقول في اهل البدع: (والرافضة فيهم من هو متورع زاهد، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من اهل الاهواء ،فالمعتزلة اعقل منهم واعلم وادين ، والكذب والفجور فيهم اقل منه في الرافضة .والزيدية من الشيعة خير منهم :اقرب الى الصدق والعدل والعلم. وليس في اهل الاهواء اصدق ولا اعبد من الخوارج . ومع هذا فاهل السنة والجماعة يستعملون معهم العدل والانصاف ، ولا يظلمونهم ؛فان الظلم حرام مطلقا ،كما تقدم،بل اهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض ، بل هم للرافضة خير واعدل من بعض الرافضة لبعض).
***



ب)مراعاة اختلاف احوال بني البشر:
نظر علماء المسلمين الى الانسان على انه خطاء تواب ؛فهو ساحة المعترك بين الحق والباطل ؛فتارة ينتصر الحق على الباطل عنده وتارة يهزم ،وتارة يغلب عليه الانصاف ، وتارة الظلم ،وادركوا كثيرا من الظروف والملابسات التي تضعف من مقاومته لاهوائه وشهواته ،ومن ثم فانهم لم ياخذوا بكل قول يقال مجردا عن ظروفه وسياقاته ،وانما حاولوا استبطان الامور ، والنفاذ الى الدوافع الخافيه من اجل حكم متوازن منصف.ولذلك امثلة منها:

*ادراكهم لما قد يسببه سوء الفهم للكلام وتجاهل ظروف وقوعهمن احكام خاطئة،مثال ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمة زيد بن وهب الجهني من توثيق الجمهور له ،وقوله:وشذ يعقوب بن سفيان الفسوي ،فقال: في حديثة خلل كثير ،ثم ساق يعقوب من روايته قول عمر في حديثه : (يا حذيفة بالله أنا من المنافقين؟) قال الفسوي :وهذا محال .قال ابن حجر : هذا تعنت زائد ، وما بمثل هذا تضعف الاثبات ولا ترد الاحاديث الصحيحة ، فهذا صدر من عمر عند غلبة الخوف ، وعدم امن المكر ،فلا يلتفت الى هذه الوساوس الفاسدة في تضعيف الثقات.
فعدم ادراك الفسوي لنفسية عمر ومقام الخوف الذي قال فيه ذلك حمله على تكذيب زيد في روايته وعد كلام عمر محالا وقد رد عليه ابن حجر بما يستحق.

*ادراكهم أن المرء قد يتكلم ببعض الكلام وهو غير مالك لقواه العقلية ويكون في ذلك الكلام ما يؤخذ عليه،فيلتمس اهل العلم المعذرة له ،لما غلب عليه من الضعف.
مثال ذلك ما ذكره الذهبي في ترجمة صالح بن محمد جزرة قال:أصيب بالحمى ،فكان الاطباء يختلفون اليه ،فلما اعياه الامرأخذ العسل والشونيز(الحبة السوداء)، فزادت حماه فدخلوا عليهوهو يرتعد،ويقول:بأبي انت يا رسول الله ما كان اقل بصرك بالطب!!قال الذهبي :وهذا مزاح لا يجوز مع سيد الخلق _صلى الله عليه وسلم_ولعل صالحا قال هذه الكلمة من الهجر _أي الهذيان_في حالة غلبة الرعدة ؛فما وعى ما يقول ،او لعله تاب منها والله يعفو عنه.

*ومن هذا القبيل ادراكهم لما تثيره الشحناء والعداوة بين الاقران والنظراء من ظلم بعضهم لبعض وتضخيم بعضهم سيئات بعض مع الاغضاء عن المناقب والحسنات .
مثال ذلك ما ذكره الذهبي في ترجمة مطّين محمد الحضرمي حيث قال:كان متقنا ،وقد تكلم فيه محمد بن ابي شيبة وتكلم هو فيه ،فلا يعتد غالبا بكلام الاقران ،ولاسيما اذا مان بينهما منافسة.

*وقد يضعون أصبعهم على سبب الفجوة بين عالمين ،فينصون عليه،ويكشفون بذلك عن الزغل الذي دخل الحكم ،على نحو ما ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمة احمد بن صالح المصري الطبري من ان النسائي كان سيء الراي فيه ،لان النسائي لما قدم مصر أراد من احمد ان يحدثه ،وكان من عادة احمد ان لايحدث انسانا حتى يسال عنه .وان النسائي قد صحب قوما من اهل الحديث لا يرضاهم احمد ،فابى ان يحدثه فذهب النسائي فجمع الاحاديث التي وهم فيها احمدوشرع يشنع عليه وما ضره ذلك واحمد امام ثقة .
ولم تقتصر معرفة علماء الحديث على العلاقات الفردية بين الاشخاص ؛لكنها تجاوزت ذلك الى معرفة مزاج مدن وطوائف واشخاص تجاه بعض المدن او المذاهب الاخرى!وهذا ليس بالامر السهل ،لانه يتطلب استقراء واسعا ونظرا مركبا!
مثال ذلك طعن ابن سعد في محارب بن دثار ،وزعمه انه لايحتج به .وقد قال ابن حجر :احتج به الائمة كلهم ،لكن ابن سعد يقلد الواقدي ، والواقدي على طريقة اهل المدينة في الانحراف عن اهل العراق !

*ومن لطيف ما ادركه علماء المسلمين تفاوت الناس في الاحكام التي يصدرونها بحسب المواقع الثقافية التي يحتلونها والامزجة النفسية التي يتلبسون بها فالحافظ الكبير ينظر الى غيره نظرة تخالف نظرة من هو متوسط الحفظ ،تماما كما نقوّم نحن الان المؤلفات حيث يقول احدنا في كتاب :انه رائع ونفيس على حين يقول فيه الاخر :ليس فيه جديد.
ان اختلاف النظر في هذا بعض تطبيقات قانون النسبية .وقد نظر كثير من اهل العلم في احوال كثير من الائمة الذين قصدوا للجرح والتعديل وتصحيح الاحاديث وتضعيفها فمنهم من عرف بالتشدد ومنهم من عرف بالتوسط او التساهل ،فممن صنف مع المتشددين ابو حاتم والنسائي ،وممن عرف بالتوسط احمد بن حنبل وممن عرف بالتساهل الحاكم النيسابوري ، وهكذا .وفائدة هذه التقسيمات جليلة ،فسكوت المتشدد عن رجل ، فيه نوع من التزكية له ،وانفراد متشدد بالجرح عن الجماعة يعزى الى مقاييسه،ولا يضر كثيرا!

*ومنها ادراكم اختلاف المقاييس والمعايير التي ينطلق منها الناس في تقويم الاشخاص والافكار والاحداث كان القول المرضي عند المحدثين ان التعديل يقبل مبهما ،لان الاصل في المسلم العدالة ،ولكثرة اسبابه ،اما الجرح فينبغي ان يكون مفسرا _في الجملة_؛لان الاسباب التي بنى عليها المحدث جرحه قد لا تكون كافية لاسقاط الاحتجاج ،او لانه قرا بعض احواله ،او بعض ما قيل فيه قراءة خاطئة ،مبعثها الوهم او سوء التقدير ، فيكون في ذلك ظلم واخلال بالعدل الذي قامت عليه السماوات والارض.
ومثال ذلك ما ذكره ابن حبان في ترجمة بشر الحمصي جيث قال:وروي عن البخاري انه قال :تركناه،قال الحافظ ابن حجر :وهذا خطأ من ابن حبان نشأ عن حذف ،وذلك أن البخاري انما قال في تاريخه تركناه حيا سنة اثنتي عشرة ،فسقط من نسخة ابن حبان لفظة "حيا " فتغير المعنى.
*ادراكهم لما يعرض للانسان من الاحوال كاختلاط العقل بسبب الكبر،او بسبب مرض، وهذا يؤدي طبعا الى عدم الاخذ عنه .وقد حرص المحدثون على بيان تاريخ الاختلاط ،فيوثق بما روي عنه قبل الاختلاط ،ويهدر ما روي عنه بعده ،ومن اللطيف في هذا ان اسرة الراوي قد تكون على وعي بما يترتب على الرواية عن المختلط ،فتصير الى حجبه عن الناس ،ويمنعون الناس من الرواية عنه.
ومن ذلك ان ابن سعد قال:جرير بن حازم الازدي ثقة ،الا انه اختلط في اخر عمره ،قال ابن حجر:لكنه ما ضره اختلاطه ،لان احمد بن سنان قال:سمعت ابن مهدي يقول :كان لجرير اولاد ،فلما احسوا باختلاطه حجبوه ،فلم يسمع احد منه في حال اختلاطه شيئا .
هذه التفصيلات_وغيرها كثير_في احوال الناس ليس لها مثيل عند امة من الامم ،وهي تمثل قمة الموضوعية .
***
ج)اللغة الكمية:
تشكو معالجة القضايا الانسانية كافة من نسبية دلالة الالفاظ الواصفة لاحوالنا واحوال كل ما نتعامل معه من حولنا ،فحين نقول :فلان غني،فما هوغناه ؟من الواضح ان معنى هذه الكلمة يحدده حال القائل ؛فالمدقع الذي لا يملك شيئا يرى اكثر الناس اغنياء على حين تكون نظرة كبار الاثرياء لمدلول هذه الكلمة عندما يستخدمونها مختلفة تماما.
واستخدام اللغة الكمية اليوم يمثل مؤشرا هاما من مؤشرات التقدم العلمي ؛ومن هنا كانت محاولات المحدثين في هذا الصدد قفزة ذهنية ،وحضارية متفردة ،وذلك حين عمدوا الى تحديد معاني الالفاظ الدالة على الجرح والتعديل وترتيبها (كثقة وصدوق ومقبول ..)،لانعكاس ذلك على قيمة النص الذي يرويه العالم وقيمة الراي الذي يبدية. وصحيح ان كل تحديد في هذا الباب سيظل قاصرا عن بلوغ النهاية ،لكن ما فعلوه كان اقصى ممكن في حول البشر.
***
د)الانصاف:
لعل من اشد ما نحتاجه اليوم في التعامل مع بعضنا البعض خلق الانصاف الذي يقتضي ذكر محاسن الشخص ومثالبه عند الحاجة الى تقويمه مهتدين بقول الله _تعالى _: (ولا تبخسوا الناس اشياءهم)،فاذا ذكر فاسق ،او شاعر ملحد ،او عدو عاقل ،واردنا تقويمه وجب ان يشار الى الصفتين معا انصافا له اولا ،ومحافظة على رؤية متوازنة للامور ثانيا ،وحرصا على تكوين مزاج صحيح للامة ثالثا ،وابقاء على هامش للتفاعل معه رابعا.
قال عبد الرحمن بن مهدي: (حين ذكر ان اهل العلم يكتبون مالهم ،وما عليهم،واهل الاهواء لا يكتبون الا ما لهم).
*اول ما يصادفنا من مفردات منهجهم في هذا الباب انتصاف الواحد منهم من نفسه بالرجوع عن الخطا ،او الاعتراف لبعض طلابه بانه اعلم منه في بعض العلوم.
من هذا القبيل ما نقل عن الامام الشافعي انه قال لتلميذه الامام احمد بن حنبل :انتم اعلم بالاخبار الصحاح منا ،فاذا كان خبر صحيح فاعلمني حتى اذهب اليه كوفيا كان او بصريا او شاميا.

*ومما نجده في باب الانصاف المواقف الشجاعة التي ينقد فيها المرء اخص اقربائه ،ويكشف عن احوالهم في سبيل نصاعة الحقيقة ،وحفظ مراشد الحق من الانطماس .
مثال ذلك قول عبد الله بن عمرو :قال لي زيد بن انيسة :لا يكتب عن اخي ؛فانه كذاب !!

*ومن اجمل مظاهر الانصاف انصاف الخصوم بذكر محامدهم ومناقبهم ،ونجد في هذا المقام اعتدال اهل السنة والجماعة مع الفرق والطوائف التي يرون انحرافها عن الحق ،وانغماسها في الانحراف ،وهذا مع ان كثيرا من الفرق لم ينصفوا اهل السنة والجماعة ،بل ان منهم من يكفرهم ،ومع هذا فانهم يعطونهم حقهم دون بخس او شطط.
فمن ذلك ان الشيخين البخاري ومسلما رويا عن العشرات من اهل الاهواء والبدع كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وغيرهم.
وحين بترجم اهل السنة والجماعة لاحد من اهل الاهواء فانهم ينصفونه بذكر صورة كاملة فيها المناقب والمثالب ،كما يفعلون تماما حين يترجمون لواحد منهم ،وهذا ما نلمسه في عدد كبير من الشواهد منها: قول الذهبي في صدقه بن الحسين: العلامة الفَرَضي المتكلم المتّهم في دينه.

*ومن جملة مظاهر الانصاف عدم اعتدادهم بكل قول يقال ،فقد يكون القائل مغرضا او جاهلا او متعنتا او قلد من هو كذلك ،وقد يكون القائل غير مؤهل لاصدار الاحكام فيما جرح ،وقد يكون طعنه فيه غير معلل،والمطعون فيه موثق.وقد يكون عاب ما ليس موضع عيب ،او ما هو عيب نسبي لا يستدعي الاعراض عنه...الخ.
ومن النماذج على ذلك ما اجمله ابن حجر من الدفع عن بعض من تكلم فيه من رجال البخاري ومسلم حيث كان مما ذكره قوله:ابان بن يزيد العطار ،نقل الكديمي تضعيفه والكديمي واه ،ابراهيم بن سويد بن حيان تكلم فيه ابن حِبان بلا حجة...الخ

*ومن انصافهم التفصيل في جوانب المعرفة لدى اهل العلم ؛فقد يكون المرء بارعا في علم من العلوم ،لكنه مقصر في علم آخر ،او يكون غير ثبت فيما اخذه عن بعض شيوخه ويكون حجه فيما اخذه عن شيخ آخر.
ومن هذا الضرب ما ذكره ابن حجر في تراجم بعض رواة البخاري حين قال:سلام بن مطيع تكلم في حديثه عن قتادة خاصة .عبد الكريم بن مالك الجزري تكلم ابن معين في حديثه عن عطاء خاصة...
***
ان هذه التجليات الموضوعية التي سقناها تجاه التعامل مع الاشخاص هي وليدة التعاليم الاسلامية في هذا المجال .وما وجد في حياتنا قديما وحديثا مما يخالف ما عرضناه هو قعود عن مسايرة المنهج ،او انحراف عنه .وكلما تجذر المسلم في فهم دينه وجد نفسه مغمورا بالموضوعية دون دراية منه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق