الأربعاء، 27 يناير 2010

بحث في المذاهب المندثرة

" المقدمة "

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..

تميز عصر الأئمة المجتهدين بفتح باب الاجتهاد للعلماء وظهور مذاهب فقهية لعلماء اجلاء اتبعتهم الأمة في فقههم إلى عصرنا هذا ،إلا أن بعض هذه المذاهب قد اندثر ولم يبق له اتباع يؤلفون فيه وينظِّرون له ويعملون به وبقيت مذاهب هؤلاء العلماء منثورة في كتب الفقه المقارن إلى عصرنا هذا ،وقد قمت في بحثي هذا بجمع ما استطعت جمعه من اسماء العلماء المقلًّدين ثم اتبعت ذلك بتعريف مختصر لأبرز هذه المذاهب سائلة المولى أن يكون بحثي سهل التناول واضح المعنى والعبارة والله الهادي والموفق.



المبحث الأول :اسماء العلماء المقلَّدين في عصر الأئمة المجتهدين:

كثر الأئمة المجتهدون في هذا العصر وكان لكل عالم مجتهد أتباع مقلِّدون يأخذون عنه أحكام فقههم ، ودون بعض العلماء اسماء الأئمة المقلَّدين فقال الامام الذهبي: (فالمقلدون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشرط ثبوت الاسناد إليهم، ثم أئمة التابعين كعلقمة، ومسروق، وعبيدة السلماني، وسعيد بن المسيب، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير، وعبيدالله بن عبد الله، وعروة، والقاسم، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي.
ثم كالزهري، وأبي الزناد، وأيوب السختياني، وربيعة، وطبقتهم.
ثم كأبي حنيفة، ومالك، والاوزاعي، وابن جريج، ومعمر، وابن أبي عروبة، وسفيان الثوري، والحمادين، وشعبة، والليث، وابن الماجشون، وابن أبي ذئب.
ثم كابن المبارك، ومسلم الزنجي، والقاضي أبي يوسف، والهقل بن زياد، ووكيع، والوليد بن مسلم، وطبقتهم.
ثم كالشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، والبويطي، وأبي بكر بن أبي شيبة.
ثم كالمزني، وأبي بكر الاثرم، والبخاري، وداود بن علي، ومحمد ابن نصر المروزي، وإبراهيم الحربي، وإسماعيل القاضي.
ثم كمحمد بن جرير الطبري، وأبي بكر بن خزيمة، وأبي عباس بن سريج، وأبي بكر بن المنذر، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي بكر الخلال.
ثم من بعد هذا النمط تناقص الاجتهاد، ووضعت المختصرات، وأخلد الفقهاء إلى التقليد، من غير نظرفي الاعلم، بل بحسب الاتفاق، والتشهي، والتعظيم، والعادة، والبلد.
فلو أراد الطالب اليوم أن يتمذهب في المغرب لابي حنيفة، لعسر عليه، كما لو أراد أن يتمذهب لابن حنبل) ا.هـ .[1]
وأكثر هؤلاء العلماء لم يكتب لمذاهبهم البقاء فاندثرت في زمن قصير وآخرون بقيت مذاهبهم لقرن او قرنين او ثلاثة_ سأذكرهم في المبحث التالي_ ومنهم من استمر مذهبه الى عصرنا الحاضر وهم الأئمة الأربعة المشهورون.



المبحث الثاني:في أبرز المذاهب المندثرة:

في هذا المبحث سأذكر في مطالبه أبرز ثمانية مذاهب _بقيت زمنا بعد موت اصحابها رحمهم الله ثم اندثرت_ مترجمة لامامه مع ذكر ملامح مختصرة عن المذهب ، وهي مرتبة بحسب تاريخ مولد الإمام صاحب المذهب:

المطلب الاول:مذهب الامام الحسن البصري:
صاحب المذهب هو الامام الحسن بن أبي الحسن سيار أويسار ،أبو سعيد الحسن البصري مولى زيد بن ثابت ،ولد بالمدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر _رضي الله عنه_ ومات سنة 110هـ [2]
عده عياض في المدارك من الائمة اصحاب المذاهب المقلدة المدونة.[3]
وكان مذهب الامام الحسن البصري يميل الى الرأي والقياس، واندثر مذهبه بانتشار المذهب الحنفي[4]

المطلب الثاني :مذهب الامام الأوزاعي:
صاحب المذهب هو شيخ الاسلام وعالم اهل الشام عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد،أبو عمرو الأوزاعي
ولد ببعبلبك سنة88 هـ ،سكن بيروت وتوفي بها سنة 157هـ، قيل انه افتى في سبعين ألف مسألة [5].
كان يكره القياس ويقف مع السنة لذلك يعد من فقهاء مدرسة أهل الحديث،انتشر مذهبه بالشام والاندلس بفضل اصحابه الى أن طغى عليه مذهب الشافعي في الشام و مذهب الإمام مالك في الاندلس منتصف القرن الثالث الهجري بعد حوالي المئتي عام من انتشاره.[6]


المطلب الثالث:مذهب الإمام الليث بن سعد:
صاحب المذهب هو الامام الحافظ شيخ الإسلام وعالم الديار المصرية الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي ،ولد بقرقشنده سنة 94هـ، ومات سنة 175هـ[7]، شد الرحال في طلب العلم إلى مكة وبيت المقدس وبغداد، وروى عن نحو ستين من التابعين[8]
كان له مع الامام مالك مراسلات ومجادلات ،وكان يأخذ على الامام مالك مبالغته في الاحتجاج بعمل أهل المدينه والقضاء بالشاهد واليمين.[9]
قال عنه الإمام الشافعي : ( الليث بن سعد افقه من مالك إلا أن اصحابه لم يقوموا به)[10].


المطلب الرابع:مذهب الإمام الثوري:
صاحب المذهب هو شيخ الاسلام إمام الحفاظ سيد العلماء العاملين في زمانه سفيان بن سعيد الثوري الكوفي المجتهد، ولد سنة97 هـ ،ومات في البصرة سنة 161هـ .[11]وهو من أتباع التابعين وروى عن أعلامهم كقتادة ومجاهد وعطاء .[12]
وهو من مدرسة أهل الحديث وكان له أتباع يفتون بمذهبه ،غير انهم لم يكثروا ولم يظل تقليده فاندثر [13].


المطلب الخامس: مذهب الامام اسحاق بن راهويه:
صاحب المذهب هو الامام الكبير شيخ المشرق اسحاق بن راهويه ابو يعقوب ولد سنة 161هـ، وتوفي سنة 238هـ.[14]
وهو احد كبار الحفاظ وامام من أئمة المسلمين جمع بين الحديث والفقه والورع والزهد،
وكان لمذهبه اتباع يقال لهم الاسحاقيه .[15]

المطلب السادس:مذهب الامام ابو ثور:
صاحب المذهب هو الامام الحافظ المجتهد مفتي العراق ابوثور ابراهيم بن خالد الكلبي، ولد سنة 170هـ،وتوفي سنة240هـ.[16]
تفقه الامام ابو ثور بالرأي حتى قدم الشافعي بغداد فاختلف اليه ورجع عن الرأي الى الحديث ،قال ابن عبد البر كان ثقة فيما يروي وحسن النظر الا ان له شذوذا خالف فيه الجمهور وقد عدوه احد ائمة الفقهاء ،قال السبكي :لا يعني شذوذا في الحديث بل في مسائل الفقه التي اغرب فيها.[17]
وقد عده السبكي من المقلدين للشافعي والذي صرح به غير واحد انه كان مجتهدا مستقلا فنسبته اليه نسبة المتعلم للمعلم لا المقلَِّد للمقلًّد فقد كان له مذهب مدون واتباع الا ان اصحابه لم يكثروا ولا طالت مدتهم وانقطعوا بعد ثلاثمائة.[18]

المطلب السابع:مذهب الإمام الطبري:
صاحب المذهب هو الإمام ،العلم ،المجتهد عالم العصر محمد بن جرير،أبو جعفر الطبري، من أهل آمل طبرستان، ولد سنة 224هـ وتوفي ببغداد سنة 310هـ .[19]
نسبه بعض العلماء الى المالكية وبعضهم نسبه الى الشافعية والتحقيق أنه مجتهد مطلق وكان له اتباع انقطعوا بعد الأربعمائة [20].
وقد أشار في تفسيره الى الأصول التي يعول عليها في استنباطه للاحكام ،ومن ذلك قوله: (إن الحلال والحرام لايكون إلا بنص أو دليل أو أصل ،أو نظير لأصل)
والأصل عند الطبري ينصرف إلى الكتاب والسنة والإجماع ،وأما نظير الأصل فهو القياس.[21]



المطلب الثامن :مذهب الامام داوود الظاهري:
صاحب المذهب هو الإمام الحافظ داود بن خلف الظاهري مولى امير المؤمنين المهدي رئيس أهل الظاهر مولده سنة 200هـ ، ومات سنة270هـ ،اخذ العلم عن اسحاق بن راهويه وأبي ثور.[22]
ومذهبه يقرر أن المصدر الفقهي هو النصوص فلا رأي في حكم من احكام الشرع،ونفى المعتنقون لهذا المذهب الرأي بكل انواعه،فلم ياخذوا بالقياس ولا بالاستحسان ولا بالمصالح المرسلة ولا الذرائع، بل ياخذون بالنصوص وحدها وإن لم يكن النص اخذوا بحكم الاستصحاب الذي هو الاباحة الاصلية الثابته بقوله _تعالى_: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)وقد قرروا احكاما كثيرة خالفوا بها الفقهاء،بل أداهم ترك الرأي والتمسك بالنصوص الى ان يقولوا احكاما هي في منتهى الشذوذ،وكان من اسباب شدة المعارضة لهذا المذهب ان داود منع التقليد منعا مطلقا فلا يجوز للعامي أن يقلد بل عليه ان يجتهد وان لم يستطع الاجتهاد سال غيره ولكن لا يقبل قول غيره الا اذا قدم له الدليل من الكتاب او السنه او الاجماع فان لم يقدم واحدا من هذه اتجه لغيره ولم يكن لهذا الراي اثرا حسنا لانه يجرئ على الاجتهاد من لا يحسن فهم الكتاب والسنه.[23]
انتشر المذهب الظاهري في القرنين الثالث والرابع وعده بعض العلماء رابعا بعد مذهب ابي حنيفة ومالك والشافعي فكان في الشرق في القرن الرابع اكثر انتشارا من مذهب الامام احمد ولكن في القرن الخامس جاء القاضي ابو يعلى وجعل للمذهب الحنبلي مكانة وبذلك زحزح المذهب الظاهري من المشرق وحل محله،في الوقت الذي قام فيه المذهب الظاهري في الاندلس بجهود العالم ابن حزم الذي انتصر للمذهب الظاهري ونشره والف فيه مؤلفات خلدت المذهب فكان فضله على المذهب ظاهر رحمه الله رحمة واسعه.[24]
وقد قدر لمذهب الظاهري أن يبقى فترة من الزمن ثم اخذ يضعف شيئا فشيئا حتى انتهى في القرن الثامن تقريبا.[25]



الخاتمة

بعد ذكرنا لأبرز المذاهب المندثرة يحسن بنا في خاتمة البحث أن نقف على بعض الأسباب التي أدت إلى اندثار هذه المذاهب وتقلص أتباعها ومن اهمها ما يلي:
1-أن هؤلاء الأئمة لم يدونوا مذاهبهم كما فعل غيرهم ،أو أنهم دونوا لكن لم يكتب لمدوناتهم البقاء لأي سبب من الأسباب.
2-أن أئمة المذاهب المندثرة لم يكن لهم تلاميذ نجباء كثيرون يأخذون عنهم فقههم ويدونونه ويؤلفون فيه ويؤصلون قواعده ويسجلون فتاوى الإمام وينشرونها بين الناس.
3-أن هذه المذاهب لم يُقيض لها دولة قوية تتبناها وتعمل بها وتلزم الناس بها كما حصل مع المذاهب الباقية.

هذه ابرز أسباب اندثار هذه المذاهب
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

***





المراجع:
1-تاريخ المذاهب الإسلامية ،محمد أبو زهرة ،طبعة دار الفكر العربي.
2-سير أعلام النبلاء،الامام الذهبي،مجموعة من المحققين باشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة
الطبعة : الثالثة ، 1405 هـ / 1985 م
3-الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ،سيدي محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي ،تاريخ الطبعة"1340/1345"
4-المدخل في الفقه الإسلامي.تعريفه وتاريخه ومدارسه،تاليف محمد مصطفى شلبي،الطبعة العاشرة 1405هـ،الدار الجامعية.
5-مصادر التشريع الاسلامي،د.عباس شومان،الدار الثقافية للنشر ،الطبعة الأولى1420هـ
6-مقدمة في دراسة الفقه الإسلامي،ا.د محمد الدسوقي،د.أمينة جابر،دار الثقافة للطباعة 1420هـ.
[1] سير اعلام النبلاء(8/91)
[2] انظر سير اعلام النبلاء(4/563،588)
[3] انظر :الفكر السامي في تاريخ التشريع الاسلامي(1/77)
[4] انظر:مصادر التشريع الاسلامي(125)
[5] انظر:سير اعلام النبلاء(7/107،134)
[6]انظر: مصادر التشريع الاسلامي(126)،و مقدمة في دراسة الفقه الاسلامي(184)
[7] انظر:سير اعلام النبلاء (8،161،136)
[8] مقدمة في دراسة الفقه الاسلامي(185)
[9] مصادر التشريع الاسلامي (126)
[10] مصادر التشريع الإسلامي(126)
[11] سير اعلام النبلاء(7/229)
[12] مقدمة في دراسة الفقه الاسلامي(185)
[13] مقدمة في دراسة الفقه الاسلامي(185)
[14] انظر:سير اعلام النبلاء(11/358)
[15] مقدمة في دراسة الفقه الاسلامي(188)
[16] انظر:سير اعلام النبلاء(12/75)
[17] انظر الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي (2/13)
[18] انظر:الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي(2/14)
[19] انظر:سير اعلام النبلاء(14/267)
[20] انظر :الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي(2/39)
[21] انظر:مقدمة في دراسة الفقه الاسلامي(187)
[22] انظر:سير اعلام النبلاء(13/97)
[23] انظر:تاريخ المذاهب الاسلامية (2/345)
[24] انظر:تاريخ المذاهب السلامية (2/351)
[25] المدخل في الفقه الاسلامي (206)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق